بقلم : رائد محمد القحطاني
في أطراف المدن، وفي القرى البعيدة التي لم تكتمل فيها كل الخدمات ، يعيش الأشخاص حياة بسيطة ، لكنهم يواجهون تعقيدًا حقيقيًا حين يتعلق الأمر بالصحة. هناك، لا تكون المشكلة في غياب المستشفيات فقط، بل في غياب المعرفة التي تحمي الإنسان قبل أن يمرض، وتوجّهه حين تظهر أولى العلامات. في هذه البيئات تحديدًا، ومن هنا يبرز دور التثقيف الصحي بوصفه خط الدفاع الأول، والأكثر تأثيرًا، والأقل تكلفة.
إن التثقيف الصحي في المناطق النائية لا يشبه ما يُقدَّم في المدن الرئيسية أو عبر المنصات الرقمية المتقدمة. فهو لا يعتمد على المصطلحات الطبية المعقّدة، ولا على النشرات المطبوعة الطويلة، بل يقوم على مبدأ بسيط وهو إيصال الرسالة بوضوح، وأن تكون قابلة للتطبيق، وأن تحترم واقع الناس وثقافتهم ومستوى معرفتهم. فالمعلومة التي لا تُفهم لا يمكن أن تنقذ، والنصيحة التي لا تناسب الواقع لا تُطبَّق.
وفي حقيقة الأمر أن كثير من سكان المناطق البعيدة لا يملكون ما يُعرف بـ«الأمية الصحية» الكافية، أي القدرة على فهم المعلومات الصحية واتخاذ قرارات سليمة بناءً عليها. وقد يؤدي ذلك إلى تأخر طلب العلاج، أو الاعتماد على ممارسات خاطئة، أو تجاهل أعراض خطيرة بدافع الخوف أو الجهل. هنا يأتي دور التثقيف الصحي ليملأ هذه الفجوة، لا عبر التلقين، بل من خلال الحوار، والاستماع، وتقديم المعلومة بلغة قريبة من الناس.
وفي دول العالم تؤكد التجارب الصحية أن أكثر برامج التثقيف نجاحًا في هذه البيئات هي تلك التي تعتمد على أبناء المجتمع أنفسهم؛ العامل الصحي أو المثقف الذي يعرف لهجتهم، ويشاركهم عاداتهم، ويفهم مخاوفهم. وجود هذا الشخص لا يختصر المسافة الجغرافية فقط، بل يختصر المسافة النفسية بين المجتمع والخدمة الصحية، ويحوّل التثقيف من نشاط عابر إلى علاقة ثقة مستمرة.
كما أن التثقيف الصحي يصبح أكثر فاعلية حين لا يُقدَّم بمعزل عن الخدمة. فعندما تقترن النصيحة الصحية بفحص بسيط، أو بإحالة مباشرة، أو بمتابعة لاحقة، يتحول الوعي إلى سلوك، والسلوك إلى عادة. فالمجتمع لا يحتاج إلى معرفة ما هو الصحيح فقط، بل يحتاج إلى فرصة واقعية لتطبيقه.
وفي ظل التحديات المتزايدة للأمراض المزمنة، والأوبئة، والتغيرات السلوكية السريعة، يصبح الاستثمار في التثقيف الصحي بالمناطق النائية ضرورة وطنية، لا خيارًا تكميليًا. فهو يسهم في تقليل العبء على المنشآت الصحية، ويرفع من كفاءة الوقاية، ويعزز العدالة في الحصول على المعرفة الصحية، باعتبارها حقًا أصيلًا لكل فرد، أينما كان.
إن التثقيف الصحي ليس مجرد رسالة تُقال، بل مسؤولية تُمارس، تبدأ من فهم الإنسان لذاته، وتنتهي بمجتمع أكثر وعيًا وقدرة على حماية صحته. وحين تصل هذه الرسالة إلى أبعد قرية، فإنها لا تحمل معها معلومة فحسب، بل تحمل أملًا بحياة أفضل، وأكثر أمانًا.
رائد محمد القحطاني
أخصائي تثقيف صحي

