بقلم د. عمار السكجي
فيزيائي نظري ورئيس الجمعية الفلكية الاردنية
تتحرك الأجسام الفضائية في السماء بسرعات متفاوتة، وتستخدم تقنيات اختفاء معقدة، فعلى سبيل المثال، تم تصميم الطائرات الشبحية وتصنيعها باستخدام مواد وأشكال تجعل من الصعب رصدها عبر الرادارات التقليدية، أو بالأشعة تحت الحمراء، أو من خلال أجهزة الاستشعار البصرية والصوتية، ويعود ذلك إلى أن هذه الطائرات تتمتع بمقطع عرضي راداري منخفض (RCS)، وهو ما يقلل انعكاس الموجات الكهرومغناطيسية ويضعف إمكانية كشفها.
في قياس سرعات الاجسام الجوية والفضائية، تُستخدم وحدة “ماخ”، التي تعادل سرعة الصوت عند مستوى سطح البحر في الظروف القياسية، أي ما يقارب 1225 كيلومترًا في الساعة، وتصل سرعات الصواريخ الفرط صوتية (Hypersonic) إلى 5 ماخ أو أكثر، أي نحو 6125 كيلومترًا في الساعة، وتبلغ أقصى السرعات الممكنة تكنولوجيًا نحو 25 ماخ، أي ما يعادل أكثر من 30 ألف كيلومتر في الساعة، على سبيل المثال، تمتلك روسيا صواريخ بسرعات تصل إلى 27 ماخ، بينما تمتلك الصين صواريخ بسرعة 25 ماخ، والولايات المتحدة والهند تمتلكان صواريخ بسرعة 24 ماخ، في حين وصلت بعض البرامج الإيرانية إلى تطوير صواريخ بسرعة 15 ماخ، وإذا أخذنا المسافة بين إيران وإسرائيل كمثال، وهي تتراوح بين 1800 إلى 2300 كيلومتر وفق المسار، فإن صاروخًا بسرعة 15 ماخ يمكنه الوصول إلى هدفه خلال 6 إلى 8 دقائق فقط.
في ظل هذه المعطيات، لم يعد الاعتماد على أنظمة الرصد التقليدية كافيًا، فمع الاستخدام المتسارع للطائرات الشبحية والصواريخ عالية السرعة والطائرات دون طيار (الدرونز)، أصبحت الحاجة ملحة لتطوير تقنيات كشف تتجاوز حدود ما توفره الرادارات الكلاسيكية، من أبرز الأساليب الفيزيائية التي ما تزال مستخدمة حتى اليوم، ما يعرف بظاهرة دوبلر، وهي تعتمد على قياس التغير في تردد الموجات الكهرومغناطيسية عند انعكاسها عن جسم متحرّك، ويُستخدم هذا التغير لتحديد السرعة النسبية للهدف، وقد تطورت تقنيات الرادار بشكل كبير، فظهرت أنظمة متعددة مثل الرادارات الأحادية، والرادارات الثنائية، ورادارات الفتحة الاصطناعية، والرادارات المستمرة ذات التعديل الترددي، وتعتمد جميعها على معادلات فيزيائية دقيقة مثل “تاثير دوبلر” وغيرها لحساب القدرة المستلمة من الإشارة المنعكسة، إلا أن فعالية هذه الأنظمة تعتمد بشكل كبير على خصائص الهدف نفسه، مثل شكله ومادته، ومدى قدرته على امتصاص أو تشتيت الموجات المرسلة.
في المقابل، برزت في السنوات الأخيرة تقنية جديدة تعتمد على الفيزياء الكمومية، وهي ما يعرف بـ “الرادار الكمومي” Quantum Radar ، ففي عام 2015، نُشر بحث علمي مهم في مجلة Physical Review Letters العدد 114، قدّمه فريق من الفيزيائيين الأوروبيين، بعنوان Microwave Quantum Illumination حيث ناقش إمكانية استخدام ظواهر كمومية مثل مبدأ التشابك الكمومي Entanglement وعدم مبدأ عدم التحديد Heisenberg uncertainty principle لتطوير نوع جديد من الرادارات يعتمد على ما يسمى بالإضاءة الكمومية، وتركز هذه التقنية على استخدام مصادر ضوئية مترابطة كموميًا من أجل تحسين القدرة على رصد الأجسام ذات الانعكاسية المنخفضة والمغمورة في ضوضاء حرارية شديدة، وهي بيئة مماثلة تمامًا لحالة رصد الطائرات الشبحية.
تقوم فكرة الرادار الكمومي على توليد أزواج من الفوتونات المترابطة كموميًا، حيث يتم إرسال أحد الفوتونين إلى الهدف ويُحتفظ بالآخر كمرجع، وعند ارتداد الإشارة، تُجرى مقارنة دقيقة بين الفوتون العائد والفوتون المرجعي. وما يميز هذه التقنية هو أنها لا تعتمد على بقاء الترابط الكمومي خلال الرحلة، بل تستفيد من بقاء الارتباطات الإحصائية بين الفوتونين، حتى في البيئات الضوضائية التي عادةً ما تُفقد فيها أنظمة الرادار التقليدية فعاليتها.
وتشير الدراسات النظرية إلى أن الرادار الكمومي يمتلك عدة مزايا، أبرزها القدرة على رصد الأهداف الشبحية التي تمتص أو تشتت موجات الرادار الكلاسيكي، والمقاومة العالية ضد التشويش والخداع الإلكتروني، بالإضافة إلى القدرة على العمل ضمن إشعاع منخفض يصعّب اكتشاف موقع الرادار نفسه. كما أن هذه الأنظمة يمكن تشغيلها في نطاقات التردد المختلفة، من الميكروويف وحتى الضوء المرئي، مما يمنحها مرونة تكتيكية كبيرة.
رغم ذلك، ما تزال هناك تحديات كبيرة تحول دون التطبيق الميداني الواسع للرادارات الكمومية، من بينها ضرورة توليد فوتونات مترابطة بمعدلات عالية تكفي للتطبيق العملياتي، وتطوير كواشف كمومية دقيقة وفعالة، وكذلك إيجاد طرق لحفظ الفوتونات المرجعية باستخدام ما يسمى بالذاكرة الكمومية، إلى جانب ذلك، يجب أن تكون هذه الأنظمة قادرة على التكامل مع شبكات القيادة والسيطرة في النظم الدفاعية الحديثة، وهو ما يتطلب جهودًا بحثية مشتركة بين المختبرات الفيزيائية والمؤسسات العسكرية، وصياغة عقيدة متخصصة للسيطرة على الأطياف الكهرومغناطيسية الكمومية في إطار الأمن القومي.
وقد بدأت عدة دول في تحقيق خطوات عملية في هذا المجال. ففي يونيو 2025، كشفت الصين عبر شركة CETC عن أول رادار كمومي قابل للبرمجة بشكل عملي، وأظهرت تجارب أولية قدرته على كشف الأهداف الشبحية في بيئات إلكترونية معقدة. كما تعمل كندا وألمانيا وفرنسا على نماذج متقدمة باستخدام موجات ميكروويفية كمومية في بيئات اختبار واقعية، بالاضافة الى الابحاث العديدة غير المنشورة في هذا الاتجاه.
يشكّل الدمج بين الذكاء الاصطناعي (AI) والحوسبة الكمومية Quantum Computing اضافة نوعية واستراتيجية لنظم الرادار الكمومي، إذ يوفر هذا التلاقي بين التقنيتين القدرة على معالجة الإشارات والرؤية الميدانية بكفاءة تتجاوز إمكانيات الأنظمة التقليدية.
فالذكاء الاصطناعي يُستخدم لتحليل البيانات الكمومية الهائلة الناتجة عن الرادارات الكمومية، بما يشمل التعرف التلقائي على الأنماط، واكتشاف الأهداف المخفية وسط الضوضاء، والتنبؤ بسلوك الأجسام الجوية المتحركة في الزمن الحقيقي. وتُستخدم خوارزميات “التعلم العميق” و”تعلم الآلة” لتصفية الإشارات المعقدة، وعزل الضوضاء الطبيعية من الإشارات الحقيقية المرتدة، ما يُمكّن النظام من اتخاذ قرارات شبه ذاتية في البيئات القتالية المتغيرة.
من جهة أخرى، توفر الحواسيب الكمومية قدرة غير مسبوقة على التعامل مع الحسابات المتوازية والاحتمالية التي يتطلبها تحليل البيانات الكمومية. فعلى عكس الحواسيب الكلاسيكية التي تعالج معلومة واحدة في كل لحظة، تستطيع الحواسيب الكمومية تحليل العديد من الحالات المحتملة في وقت واحد باستخدام ما يعرف بـ”التراكب الكمومي”، مما يعزز قدرة الرادار على اتخاذ قرارات لحظية، خاصة عند التعامل مع أهداف متعددة أو متحركة بسرعة عالية.
هذا التكامل يفتح المجال أمام بناء منظومات دفاعية ذكية فائقة الاستجابة، تتمتع بقدرات رصد دقيقة للغاية، قادرة على كشف الطائرات الشبحية، وتتبع الصواريخ الفائقة السرعة، والتعامل مع بيئات إلكترونية معقدة وملأى بالتشويش والخداع.
وبذلك، فإن الجمع بين الرادار الكمومي والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية لا يمثل مجرد تطوير تقني، بل يشكل نقلة استراتيجية نحو ما يمكن وصفه بـ”الاستشعار السيادي الفائق” في الدفاع الجوي الحديث.
في الختام، وبينما تبقى ظاهرة دوبلر والرادارات الكلاسيكية أدوات أساسية في الدفاع الجوي، فإن المستقبل القريب يشير إلى مرحلة تكنولوجية جديدة يُعاد فيها تعريف مفاهيم الرؤية والردع، فمن يمتلك الرؤية الكمومية، يمتلك التفوق العملياتي، وفي سماء المستقبل، سيكون المنتصر هو من يرى قبل أن يُرى، ويضرب قبل أن يُكشف.

