مدينة المطر والذاكرة

أحتاج إلى مدينةٍ تبلل شوارعها الأمطار، مدينةٍ لا تعرف الغبار ولا تُرهقها العواصف، بل يغسلها المطر كأمٍّ حنون تمسح على كتف طفلها. مدينةٍ تستيقظ على رائحة الأرض بعد المطر، وتنام على صوت القطرات كأنها ترتل للهدوء صلاةً خفية.

هناك، تلمع الأرصفة بعد كل هطول، وتغدو الجدران ذاكرةً مبللة لا تحفظ سوى البدايات؛ البدايات التي لم تُفسدها التجارب، ولم يلمسها الخذلان. في تلك المدينة لا تفوح من زواياها سوى رائحة القهوة، قهوة تسكب في الأكواب كأنها قصيدة، وتتصاعد أبخرتها كأحلامٍ صغيرة تبحث عن صدرٍ دافئ.

فيها يصبح الانتظار طقسًا جميلاً، لا عبئًا يثقل القلب، ويغدو الجلوس قرب النافذة دعوةً للتأمل، لا للهروب. هناك، يتعلم الإنسان أن المطر ليس فقط ماءً يسقط من السماء، بل لغة سماوية تغسل أرواحنا من ضجيج العالم، وأن فنجان القهوة ليس عادةً صباحية، بل طقس وجوديّ يعيدنا إلى أنفسنا كلما تاهت.

يا ترى، هل في أرواحنا مدينة كهذه؟
مدينة لا تكلّ من الانتظار، ولا تعرف التلوّث، ولا تخشى الحنين؟
أم أنّها مجرّد رغبةٍ دفينة تسكن كل إنسان، يبحث عنها كلما ضاقت به المدن الحقيقية وضاعت ملامحه في زحامها؟

ربما تلك المدينة ليست على الأرض، بل فينا.
ربما كلّ ما نبحث عنه من صفاءٍ وهدوءٍ ونقاء، هو في أعماقنا، ينتظر مطرًا داخليًا يغسل الغبار عن أرواحنا. فحين نمطر من الداخل، نصبح نحن المدينة…
مدينة المطر والذاكرة

اترك رد

تسهيلات الاستخدام
حجم الخط
ارتفاع السطر
تباعد الحروف
×
إشعار GDPR:

تستخدم هذه الإضافة ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك وتوفير إعدادات إمكانية الوصول المخصصة. يتم تخزين ملفات تعريف الارتباط هذه في متصفحك وتسمح لنا بتذكر تفضيلاتك لحجم الخط ومخططات الألوان والميزات الأخرى لإمكانية الوصول. باستخدام هذه الإضافة، فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط لهذه الأغراض. يمكنك حذف أو حظر ملفات تعريف الارتباط في إعدادات متصفحك في أي وقت. يرجى ملاحظة أن القيام بذلك قد يؤثر على تجربتك في الموقع.

Scroll to Top