العقل لا يُداهم ولا يُقتحم عنوة إنه يُفتح… لمن يصل أولاً.
فما يُمنح الأسبقية في داخله لا يمر عابراً
بل يستقر ويتمدد ثم يتولى القيادة بصمت.
العقل ساحة غير مرئية لا تحكمها القوة بل الترتيب والفكرة التي تدخل أولاً لا تكون مجرد فكرة بل تتحوّل إلى مرجع خفي
تُقاس عليه بقية الأفكار وتُفهم الأشياء من خلاله كأنها الضوء الذي يلوّن كل ما يليه.
نحن لا نفكّر بحرية مطلقة كما نحب أن نصدق بل نفكّر وفق ما سبق واستقر وفق خوفٍ قديم لم يُساءَل أو قناعةٍ وُلدت باكراً ولم تُراجع أو تجربةٍ أخذت مقعد الصدارة
فصارت تفسّر العالم نيابةً عنّا.
ثمّة نوع آخر من الأسبقية أكثر خفاءً وأشد أثراً، أسبقية الاهتمام.
فالعقل لا يمنح قيادته للأعمق بالضرورة بل للأكثر حضوراً لما نشغله به طويلاًلما نمنحه المساحة لما نكرّر الالتفات إليه حتى يظن أننا اخترناه.
وهكذا، لا تقودنا أفكارنا دائماً بل أولوياتنا
وما نظنه تفكيراً قد يكون مجرد انعكاسٍ
لما سمحنا له أن يحتلّ الواجهة.
فالعقلُ لا يسكنه شيءٌ صدفة إنه يُحتلّ بالأسبقية فأولُ فكرةٍ تفتح لها باب الدخول
لا تبقى ضيفاً بل تصبح سيّداً خفياً يعيد ترتيب صمتك قبل كلامك ويشكّل نظرتك قبل حكمك ويصبغ وجودك بلونها دون أن تطلب الإذن.
غير أن الوعي الحقيقي يبدأ هنا:
ألا نكون أسرى للفكرة الأولى وألا نسمح لها أن تعلن سيادتها المطلقة على عقولنا فكلّ شيء قابل للتغيّر وما يبدو ثابتاً قد يكون وهماً مؤقتاً وما يظهر جلياً قد يخفي وراءه معنى آخر.
ليس كل ما يبدو… هو الحقيقة.
وبعض الحقائق لا تشبه ملامحها الأولى
الإنسان الواعي لا يكتفي بما يُعرض عليه
بل يتأمّل يستوضح ويؤجّل اليقين حتى ينضج السؤال.
فالوعي ليس في سرعة التصديق بل في شجاعة المراجعة ومن أدرك يقيناً أن ليس كل ما يبدو حقيقياً دائماً حرّر عقله من الاحتلال والأحكام المسبقة
وترك له حقّ التبدّل… والنمو