الأخبار

نحو العزلة ..حين تُعرّيك الحقيقة.

بقلم هناء الخويلدي

ألوذ بالعزلة، لا لأنني أفرّ من العالم، بل لأن العالم أفرغني من ذاتي…ففي ضجيجه، تبعثرت ملامحي، وتكسرت أجزائي بين ما يُطلب مني وما أرجوه لنفسي.وفي لحظة صمتٍ كثيفة، لم أجد شيئًا أحتمي به سوى صوتي…ذاك الصوت المهجور في داخلي، الذي لم يعد يُجيد الصراخ، بل يهمس هامشًا في زوايا الروح.

الوحدة لا تأتي برياحها لتطمئن، بل لتوقظ.هي لا تمنحك العزاء، بل تضعك في مواجهة مرعبة مع مرآة وجودك.تسحب عنك كل قناع، كل دور، كل زيفٍ تماهى معك حتى حسبته نفسك.ثم، دون مقدمات، تُشير إلى جوهرك العاري وتقول: “هذا أنتِ”.

في مقام العزلة، لا يُسمع إلا ارتطام الذكريات بجدران الوعي…تتصارع، تتزاحم، كأن كل لحظة قديمة قررت أن تسترد مكانها في عقلي دفعة واحدة.تسألني كل فكرة عن حقيقتها، كل ذكرى عن حقي، كل حلم قديم عن مصيره،
وأقف أنا، لا كحَكَمٍ، بل كمتهم أمام محكمة الذات.

أُدرك أن الماضي لا يُستعاد، لكن الغريب أنه وحده القادر على إيضاح من أكون.أنا لست زمنًا يسير، بل نسيجًا من تجارب لم تُغلق ملفاتها،من أسئلة مُعلقة على مشجب الروح،من صورٍ باهتة تحتفظ بألمي أكثر من ملامحي.

وفي لحظة عزلة كثيفة،تندفع إليّ فكرة كسيف مسنون:
“أتكونين أنتِ… مجرد نتاج لما مضى؟”أم أنكِ كيانٌ يبحث عن نفسه عبر ما لم يُقال؟
أم كلاهما معًا؟

ثمّ، بين سؤال وسؤال، تهمس العزلة بصوتٍ جديد:
“لستِ غريبة عني… أنا لست الحزن كما يروّجون،
ولا هروبًا من فرحٍ لم يأتِ،
أنا لقاءٌ أبدي مع ذاتك،
حبٌ خالد لروحك،
وميلادٌ لكيانك الحقيقي…
بعيدًا عن صخب العالم وابتذال حضوره.”

العزلة لا تُخيفني لأنها موحشة…
بل لأنها أمينة جدًا.
تكشفني كما لم يفعل أحد،
تبين لي أنني أُشبهني، نعم…
لكنني لم أكن يومًا أنا.

وها أنا أرتجف في محرابها،
أُعيد تشكيل ذاتي من شظايا الصدق،
وأتساءل:
هل سنصمد في وجه الحقيقة، إن عرفناها حقًا

فهل حقًا نخاف العزلة؟

أم نخاف مما قد نراه في داخلنا حين نُجبر على النظر؟
أليست هي الحضن الوحيد الذي لا يشترط حضور أحد؟
أليست العزلة الجميلة، في زمن التشتت،هي المأوى الآمن حين تتيه الروح في زحام الحياة؟
حين تُرهقنا الوجوه، وتخوننا الأصوات، وتخذلنا الطرق…

ماذا لو كانت العزلة ليست انسحابًا، بل ولادة؟
ليست خواءً، بل عودة إلى ملءٍ كدنا ننساه؟

فيا من تهاب السكون…
إن ضللتَ ذاتك يومًا،
جرّب أن تناديها في العزلة…
قد تُجيبك هناك بصوتٍ يشبهك.

كن اول من يعلق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني.


*